يمثل الموقف الفكري للمفكر الفرنسي الشهير ميشيل فوكو (1926 - 1984) تجاه الثورة الإيرانية؛ من أكثر المواقف غير الاعتيادية التي يسجّها مفكر غربي تجاه حدث سياسي ذي انقلابي عارم ويحمل عنوان الإسلام وشعاراته. ثمة غموض متوقع اكتنف السياق التاريخي الذي وجّه فوكو نحو تناول الحدث الإيراني في العام ,1978 حيث امتهن مؤقتا الصحافة خصّيصاً لتغطية هذا الحدث، وذلك في الوقت الذي كان أضحى فيه واحدا من كبار الفلاسفة في النصف الأخير من القرن العشرين. ولكي يُفهَم موقف فوكو ‘’الإيجابي’’ تجاه الثورة الإسلامية الإيرانية، وقت اندلاعها، لابد من التذكير بأن فوكو كان ناشطاً سياسياً، وله تقاطعاته الوثيقة مع نضالات يسارية متطرفة، وهو أصلاً يقوم على هيئة ذهنية حادة في مقاربتها للأشياء، ويتميّز بخروجه على سلطة اللحظة واستشراف المجهول. نزلَ فوكو إلى قلب الحدث الإيراني، وكانت المعارضة في أوج معارضتها لنظام الشاه، والتقى في عمل الصحافي بالنخبة الثورية وبعموم الناس، ولم يفته أن يقابل بالخميني في إحدى ضواحي باريس. اخترع فوكو ما أسماه بالروحانية السياسية أثناء قراءاته التحليلية للثورة الإسلامية في إيران، ولم يكن لأحدٍ أن يغفل المدى التثميني الذي طبع مقالات فوكو تلك، وهي المقالات التي أُهملت ترجمتها إلى الإنجليزية وقت نشرها، وذلك على غير المعتاد في استقبال أعمال مفكر كبير، وكان ذلك بمثابة عقاب صارم من جانب النخبة الغربية، وهو عقاب نزل عليه جرّاء موقفه الذي اُعتبر إيجابياً تجاه الثورة الإسلامية في الوقت الذي كانت المعارضة الليبرالية الإيرانية الناشطة في الغرب تُنذر من طوفان الخمينية الذي سيقطع الأيدي والرقاب ويحبس النساء داخل الأغطية السّوداء. لم تتوقف الاتهامات وكلمات الاستهزاء ضد فوكو، الذي صُوّر وكأنه داعية الخميني في الغرب، وهي صورة كاريكاتورية ضُخّمت مع تقديم فوكو باعتباره جاهلاً في تاريخ إيران والإسلام، وهو أمرٌ صحيح بنسبة كبيرة. لم يستمر فوكو متحدثاً وساكناً في الحدث الإيراني، وليس ثمة تعليقات واضحة تبيّن رؤيته للنظام السياسي الإسلامي الذي قام على أنقاض الشاه، وذلك في الوقت الذي التزم فيه الصمت الغاضب تجاه الانتقادات العنيفة التي عصفت به في كلّ مكان. وفي السنوات الخمس الأخيرة، تمّت إعادة قراءة مجمل أفكاره في هذا الموضوع، لاسيما بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 المزلزلة، وظهر كتاب قبل سنتين حمل عنوان ‘’فوكو والثورة الإيرانية’’ من تأليف جانيت آفاري ENGLISH وكيفن آندرسونْ ENGLISH حلّل هذه الأفكار بعمق أكثر، مستكشفاً فيها ملامح عبقرية تجاوزَ فيها فوكو الأفكار السياسوية والأيديولوجية التي طبعت الموقف العام آنذاك تجاه الثورة الإيرانية وعموم الأصولية الإسلامية الناشطة.
الروحانية السياسية
في فبراير/ شباط ,1979 حيث اعتلى الخميني السلطة في إيران، كتب فوكو مقالة صحافية مثيرة بعنوان ‘’برميل بارود اسمه الإسلام’’، وفيه نقدا ساخراً لطروحات النخبة الفرنسية التي أملت أن يصعد الماركسيون الإيرانيون الحكم ويزيحوا الخميني ‘’قليل الخبرة بالسياسة’’ كما اعتقدوا. ولكن أمراً آخر حصلَ كما يستشرف فوكو بقوله ‘’الدين لعب دوره، فقام بفتح الستار؛ وسيختفي الملالي الآن داخل أثواب بيضاء وسوداء كبيرة. ويتغير الديكور. ويبدأ المشهد الأول: إنه صراع الطبقات، ما بين الفئات المسلحة، والحزب الذي ينظم الجماهير..’’. على هذا النحو تجلى التأثر المتجانس مع الروحانية السياسية التي بدت المناهض الأبرز للقوى الأمبريالية والاستبداد الرأسمالي، وقد حدس فوكو أنّ هذا النمط من المجابهة المسنودة بالتراث الديني سوف تمتد إلى خارج إيران، فيما كان إشارة واضحة لصعود الأصوليات الإسلامية. وفي حين رفضَ مستشرق فرنسي كبير مثل مكسيم رودنسون أطروحة الروحانية السياسية، حيث استثمر معرفته الاستشراقية في تقديم تحليل أكثر بنيوية لظاهرة الإسلام السياسي، ذاهباً إلى المخاتلة التي يتميز بها التاريخ الإسلامي. غير أنّ فوكو لم يؤثر التخلي عن أفكاره بنحو مطلق، فقد أراد توجيه الذاكرة من جديد إلى قدرة الدين التي نساها الغرب، والدين في النموذج الإيراني كما يقول فوكو يقدّم شيئاً أعمق من الأيديولوجيا، وليس الروحانية السياسية التي جرى ترسيخها هنا إلا محاولة متقدمة في استثمار المفردات الدينية والطقوس والأساطير الخالدة لتكريس المواجهة السياسية مع النظام، هذه الروحانية السياسية تجمع الفعل الثوري الخطاب الديني، وتعظّم صورة الدين الكفاحي والتضحوي، وهو الجمع الذي رآه فوكو الوسيلة العبقرية للحيلولة من دون التشبّه بالأيديولوجيات المعاصرة التي ‘’تقنّع التناقضات’’ والنفاذ منها.