مشروعه التغييري
:اربع مفارقات
ملف الصدر الثاني، من اكثر الملّفات الإسلامية في تاريخ العراق المعاصر إثارة ومفارقات، فالشهيد محمد محمد صادق الصدر (رض) لم يكن أحد من الذين عايشوه قبل تصديه للمرجعية، يتوقع ان ينهض بهذا الدور الضخم والمهم والخطير في مرحلة من أكثر مراحل المسار السياسي العراقي حساسيةً وتعقيداً، إذ بدا عليه قبل هذا التصدّي للمرجعية التواضع والزهد والمثابرة والبحث والجد في دراسته والتأثر بالثورة الحسينية.
المفارقة الثانية هي أن «الشائع» عن شخصية الشهيد محمد محمد صادق الصدر أنها شخصية «بسيطة» حتى ان البعض لا يريد ان يصدق حتى بعد استشهاده، انه استطاع ان ينجز هذا التحوّل الكبير في المسار الإسلامي في العراق، وهو تحوّل أثبت الكثير من الذكاء والبراعة والإبداع.
المفارقة الثالثة وتتعلّق بزمن مشروعه التغييري، فهو زمن لا يكاد يستوعب ضخامة هذا المشروع وأبعادِه ومفرداته ومجالاته، بضع سنوات استطاع فيها الشهيد محمد محمد صادق الصدر انجاز ما لا يمكن انجازه ربما في عقود.
المفارقة الرابعة ترتبط بالمكان الذي تحرك فيه هذا المشروع، وهو العراق المحكوم الى أعتى دكتاتورية في العالم والى قيود سياسية هائلة، والى تجارب سياسية، لا يمكن ان تشجع أحداً على ان يُفكّر بالقدرة على «تحييد» السلطة، ومن ثمّ الإنطلاق برحلة تأسيسية متسارعة لعمل اسلامي كان قبل سنوات يستفزّ هذه السلطة في أبسط مظاهره.
:خطة متسلسلة
اثار مشروع الشهيد الصدر الثاني (رض) جدلا حاداً في الواقع الإسلامي الداخلي في العراق غير انه جدل إيجابي في محصلته النهائية، ورغم معرفة الشهيد (رض) بما سيثيره مشروعه من جدل أو خلاف إلاّ انه اجتهد ان يفجر قضية الاصلاح للواقع الإسلامي وفق خطة اولية متسلسلة.. وهنا نشير إلى النقاط التالية:
أولا: انه قدّم نموذجاً جديداً لتعاطي الفقيه مع السلطة، وهو نموذج يجد له مصاديق في تاريخ اشكالية العلاقة بين الفقيه الشيعي والسلطة. إلاّ ان الجديد فيه كما اشرنا في «المفارقات» هو سلطة صدام حسين بكل خصوصياتها الدموية، وامكانية «تحييدها» لفترة، وانتزاع بعض الادوات من يدها، والدخول معها في معادلة صراع علنية، معادلة، هي بحاجة إلى قراءة دقيقة للمتغيرات التي مرّت بها السلطة، والمؤثرات الخارجية عليها، ومن ثمّ تثمير هذه المتغيرات والمؤثرات لصالح الشروع باصلاح ذاتي من جهة، وبناء اسلامي جديد من جهة ثانية.
لقد خاض الصدر الثاني هذه المعادلة والتقط كل الفرص الداخلية والخارجية لكي يكون طرفاً قوياً فيها، وهذا ما لم يُفكّر فيه فقيه أو مرجع في العراق. ولذلك فهو تحمّل ما سيقال عنه كثمن لذلك. ولو ان ما يقال سيكون قاسياً ومريراً، فهو ازاء من كان يقول عنه بانه «فقيه السلطة» او «مرجع السلطة» مارس خطاباً لا ينفكُ يوضّح، ويحاول أن يحيّد خصومه.
ثانياً: ولقد انطلق هذا المشروع، اول ما انطلق نحو بناء قاعدة شعبية متفاعلة، وجاء هذا البناء متصاعداً عبر خطوات تحرّك كبرى باتجاه الوسط الإجتماعي والعشائري، تطلّبت الخروج على «المألوف» المرجعي أو على «العُرف» المرجعي، وقيام الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر بجولات وزيارات الى العشائر العراقية، والاطلاع على أوضاعها، وبناء علاقات معها ومن ثمّ اخيراً وضع فقه خاص بها اندرج في هذا .السياق
كما تطلّب بناء القاعدة الشعبية، تجاوز خطاب «الفقيه» المكتوب الى خطاب الفقيه المسموع، والى تنشيط الإتصالات مع الناس، والى مواكبة همومهم وشؤونهم والعمل بفقه الواقع أو فقه الحياة بكل ما تلد من جديد مع مرور الزمن، اضافة الى التواجد الميداني معهم، وربط مصير «الفقيه» مع مصيرهم. وبالطبع ان هذا الواقع لم يألفه الشعب العراقي من قبل لذا فانه شكّل وضوحاً له بدور الفقيه، ومن ثمّ تعاطفاً معه.
وقد اثبتت تجربة الصدر الثاني ان الشعب العراقي يختزن الإستجابة للعمل الإسلامي إذ بمجرد ان تحرك السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر باتجاهه، فانه استجاب استجابة واضحة، لا تخلو من الشجاعة، وربما ان هنالك من يقول إن استجابة هذا الشعب انطلقت في جزء منها من وعيه بموقف السلطة التي سمحت للشهيد الصدر الثاني بالتحرك، الأمر الذي ازال جزءاً من المخاوف لديه، ومن ثمّ قرر الالتحاق بهذه التجربة، ولذا فإن الناس الذين ألتحقوا بركب الصدر الثاني لم ينتفضوا كلهم بعد اغتياله.
وربما تكون وجهة النظر هذه «صحيحة» بشكل جزئي ومحدود، واذا قيست التجربة بنتائجها وكلياتها وظروفها واحتياطات السلطة وطبيعتها فإن الامر لا يبدو كذلك، فالجمهور الصدري الثاني كان له رد فعل ولو انه لا «يتناسب» مع ما حصل بحكم الظروف الامنية القاسية التي تقيده، إلاّ انه اختزن وعي هذه التجربة، وسيعبر هذا الوعي عن نفسه ان عاجلا او آجلا في صناعة مستقبل العراق.
ثالثاً: وإذا كان تأسيس القاعدة الشعبية، شكّل محوراً أساسياً من محاور المشروع التغييري للشهيد محمد محمد صادق الصدر، فإن المحور الثاني كان محوراً إصلاحياً للوضع الإسلامي الداخلي، أي لوضع الحوزة، وكل ما يتعلق بشؤونها، بدءاً بمواصفات المرجع التي حددها الصدر الثاني وما اسماه التفريق بين المرجعية الناطقة والمرجعية الصامتة ومروراً باجهزتها الوكلائية والتبليغية والمالية وانتهاءً بمناهجها ومستواها .المعرفي، ومواكبتها لحركة العصر وحاجاته ومتطلباته
رابعاً: وكان المحور الآخر الذي شكّل معلماً من معالم مشروع الصدر الثاني التغييري يتمثل بالعلاقة بين الحوزة والأمة، واكتشاف الآليات والاساليب والطرق الكفيلة بايجاد علاقة من نوع آخر بينهما، وكانت صلاة الجمعة أكبر آلية تواصلية بين الفقيه والمجتمع وبين الحوزة والأُمّة، إذ لم يعمل بهذه الآلية من قبل، إلاّ بشكل محدود، ولوعي الشهيد الصدر الثاني باهميتها فانه أعطاها أهمية استثنائية، وأوصى بضرورة أو .وجوب مواصلتها حتى بعد موته
خامساً: استطاع الشهيد محمد محمد صادق الصدر ان ينجز كل ذلك عبر منظومة مفاهيمية مغايرة، وان يؤسس شبكة من المفاهيم الخاصة، مفاهيم دينية اجتماعية، ومفاهيم حول شؤون القيادة ومفاهيم حول الشؤون الثقافية والسياسية الاخرى شكّلت بمجملها نسيجاً معرفياً متجانساً، ميّزه عن سواه من الفقهاء، وحدّد ملامح مشروعه وتجربته، فلقد جاء هذا النسيج المعرفي بشيء من الفرادة والخصوصية والابتكار، فهو تجاوز المشتركات والثوابت من خلال استيعابها، وابرز معالم قراءته الخاصة لتعاليم الإسلام التي تنتمي للاجتهاد البشري، او الفهم البشري للدين والرسالة السماوية، ولذا فهو لم ينتم بعد استشهاده إلى تاريخ «الفقهاء التقليديين» بل انه انتمى إلى تاريخ الفقهاء الثوريين المبدعين المطورين المجدّدين، وأضاف الى .تراكمهم المعرفي تجربة جديدة لها فرادتها في كثير من الأمور والمسائل
إن المنظومة المفاهيمية للشهيد الصدر الثاني لم تكن منظومة عشوائية مبعثرة وانما هناك «قصدية» واضحة في انتقاء اي مفهوم وعلاقته بالآخر، ومن ثمّ الخروج بمسمّيات ومصطلحات للتجربة وبالتالي فانها منظومة مفاهيمية تشكل مشروعاً تغييرياً له محاوره ومعالمه ومرتكزاته الخاصة حتى وان لم يُسمِّ الصدر الثاني هذا المشروع ومحاوره ومرتكزاته ومعالمه.
سادساً: وما بدا على هذا المشروع انه جاء في جزئه العملي والنظري الأكبر، إكمالا أو ترجمة لطموح الشهيد الصدر الأول (محمد باقر) الذي بقي حبيساً في صدره ولم تسمح له الظروف، لا ظروف الصراع مع السلطة، ولا ظروف المؤسسة الدينية الشيعية الداخلية، ولا ظروف الوعي المجتمعي، ان يتصدّى له، اذ على رغم المغايرة الواضحة في امور عديدة فكرية وغير فكرية بين الصدرين الأول والثاني، ورغم احتفاظ تجربة الصدر الثاني ببعض الخصوصيات الميدانية، إلاّ ان التجربة بشكل عام جاءت وكأنها صدى لاماني الصدر الأول في اصلاح الحوزة وفي وجوبية توجهها نحو المجتمع وفي ابراز الوجه السياسي لحركة .الإسلام
وفيما قضى الصدر الأول معظم حياته في بحوث فكرية متطوّرة بغية ارساء جذور وأساس المدرسة الإسلامية بكل أبعادها الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية وبدأ بدايات في تطوير المناهج الحوزوية، واعلن خطاباً نظرياً لا يخلو من النقد لواقع هذه الحوزة وتحرك سياسياً تحت ثقل الظروف الخارجية التي ربما تكون ساعدت على دفعه على تسريع الجانب السياسي العملي من مشروعه، جاء دور الصدر الثاني من شقين شكّلا الافراز العلوي الذي غيّب في مشروع الصدر الأول، الشق المتعلّق بدور الفقيه العملي الميداني الاجتماعي الإسلامي المندك في الامة، والمرتبط معها بعد ان اكتشف آليات واساليب تعبئتها، والشق الثاني الذي يواكب حركة التجديد الفقهي بما يتناسب مع المستجدات والتطورات.
وهكذا بدا المشروعان متغايرين في ادوارهما تبعاً لاختلاف الظروف والقدرات الذاتية، وفي نفس الوقت كمّلا بعضهما البعض، في صيرورة تصاعدية تكاملية جميلة، قائمة على تواصل معرفي في حياتهما قبل الاستشهاد، وعلى رابطة دم، شاء الله ان يجعلها هكذا، ولو انها فسّرت من البعض تفسيراً ثأرياً من الصدر .الثاني لدماء الصدر الأول
سابعاً: ان الدور العملي الميداني الاجتماعي التجديدي للفقيه الصدر الثاني الذي ميّز مشروعه التغييري لم يأتِ كما أشرنا إلاّ وفق خطة تحرك عليها هذا المشروع، خطة لمرتكزات وآليات وأوليات، بدأت بـ «تحييد» السلطة، ومن ثمّ مرتكز ايجاد قاعدة شعبية ومرتكز اصلاحي داخلي للواقع الإسلامي وواقع الحوزة ومرتكز تأسيس منظومة مفاهيمية متجانسة ومتكاملة مثلّث خصوصية التجربة الصدرية الثانية، وكل تلك المرتكزات كانت ممزوجة بواقع سياسي يشكل افرازاً علوياً لهذا المشروع التغييري إلاّ ان صدام حسين قطع الطريق على تجسيد هذا الإفراز العلوي (المشروع السياسي)، مثلما قطع الطريق على تجسيد الإفراز العلوي الذي .مثّله فيما بعد مشروع الصدر الثاني على الصدر الاول
ان «قانون» الموت والقتل والإغتيال الذي عمل به صدام حسين لعرقلة حركة المشروع الإسلامي العام في .العراق، لم يحل رغم بشاعته دون تنامي هذا المشروع، وتراكم صيرورته المتصاعدة
تاسعاً: ان التجربة الصدرية الثانية في العراق مثلت صورة تصاعدية من صور حركة «الإسلام السياسي» في المسيرة الإسلامية العامة في العالم الإسلامي وفي العالم اجمع، وبقدر ما عكست هذه الصورة، وهذا المشروع الصدري الثاني من خصوصية نابعة من الظروف والجغرافيا والإبداع الذاتي الفقهي الثوري، فإنها عكست من خلال الأداء العام لهذا المشروع وأدبياته، تواصلا مع الحركة الإسلامية العالمية بكل صورها .ومظاهرها الأخرى
عاشراً: ان هذا المنهج التوحيدي الذي اقتضاه المشروع التغييري الصدري الثاني، يمكن فهم الخطاب الذي تأسس عليه بتوصيف آخر غير توصيف الخطاب «المتوتر» وهو توصيف الخطاب «النقدي» للواقع القائم، اذ ان أي مشروع لا يمكن أن ينهض ويتأسس ما لم ينقد الوضع القائم، ويطرح بدائله، وان الصدر الثاني مارس نقداً شمولياً وجوهرياً، فهو نقد شمل اكبر عدد من الظواهر الخاطئة بإثارتها ومناقشتها متجاوزاً مقولات «الحساسية»، لا سيما فيما يتعلق بالواقع الإسلامي في العراق، كظواهر «النذور» والى اين ستنتهي، وظاهرة «السدنة»، وظاهرة «تقبيل الايدي» والظواهر المرتبطة باخراج الدين عن مضمونه الحقيقي، فضلا عن الظواهر الاجتماعية السيئة، وحتى قضية ادارة العتبات المقدسة، ونقد هذه الادارة .بوضعها القائم
حادي عشر: حجم المعاناة والصبر والتحمّل والاصرار للشهيد محمد محمد صادق الصدر من أجل إنجاز هذا المشروع التغييري الاصلاحي الجذري، الذي أسسه ورعاه، ورسم ملامحه من خلال خطوط عامة ومحاور ومرتكزات وضّحها هذا البحث بشكل توثيقي، مشروع ختمه باستشهاد «مرجعي» لا ينتمي الى تاريخ الاستشهاد المتعارف، إنما يأتي حصيلة لثقافة حسينية ونبض عرفاني ينتمي الى عرفان «الواقع» وليس .<<الى عرفان «الانعزال والخرافة
وقرار استشهادي واضح واع، أكّدته الروايات المنقولة عنه، وأكّده السلوك الذي مارسه، وأكّده الكفن الذي لفّه واقفاً في صلاة الجمعة، قبل ان يلفّه في قبره الذي وضع فيه، بلا تشييع وبطريقة سرية، تحت جنح الظلام، حاضناً ولديه «مصطفى» عن اليمين و«مؤمل» عن الشمال، كما دفن الشهيد الصدر الأول، مع اخته الصدرية «بنت الهدى»، قرار استشهادي أكده السيد محمد محمد صادق الصدر، بالسلوك والأكفان .والروايات الخاصة والخطاب العلني أمام الامة عندما تحدّث أكثر من مرة عن احتمال قتله