جراح الحسين وحرب حزيران - يونيو- 1967
مر شعر نزار بعد حرب الخامس من حزيران - يونيو- 1967 بمنعطف حاسم، اذ كان لتلك الحرب وقع الصاعقة على الشعراء العرب بعامة، وعلى شعر نزار بخاصة. لأن الحلم القومي بعودة الحق لأهل فلسطين وهزيمة الكيان الصهيوني الغاصب، والذي راودهم منذ نكبة 1948 وضياع فلسطين، تبدد في بضعة أيام، حين هُزمت الجيوش العربية لدول الطوق، واحتلت إسرائيل كل مساحة فلسطين بالإضافة إلى أراضي دول عربية أخرى!
ولذا أضحى نزار أكثر التزاماً بقضايا أمته القومية والسياسية، وأصبح الشأن السياسي جزءاً لا يتجزأ من شعره، بل يحتل فيه مساحة عريضة. وكانت قصيدة: هوامش على دفتر النكسة، التي كتبها بعد نكبة حزيران هي المؤشر على المرحلة الجديدة التي خطا إليها، وقد بدأها بقوله (5):
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغة القديمة
والكتب القديمة
أنعي لكم
كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة
ومفردات العهر، والهجاء، والشتيمة
أنعي لكمْ
أنعي لكمْ
****
نهايةَ الفكر الذي
قاد إلى الهزيمة
وفي هذه القصيدة يؤشر نزار إلى المرحلة الجديدة التي ابتدأت في مسيرته الشعرية، والتي تحول فيها من كتابة شعر العاطفة والغزل وقصائد الحب المترفة إلى كتابة القصائد السياسية الحادة التي تستثير الهمم وتنبه الى الأخطاء، وتمارس النقد للحاكم والمحكوم، يقول:
يا وطني الحزينْ
حولتني بلحظةٍ
من شاعرٍ يكتب شعر الحب والحنينْ
لشاعرٍ يكتب بالسكينْ
إن هذا الشاعر الذي يكتب كلماته بالسكين يتوق إلى رمز يجسد آماله وآلامه وطموحه في الخلاص من الواقع المرير، فوجده في إمام ثائر كتب ملحمة البطولة والفداء بدمه يوم صرخ في وجه الجلادين: "هيهات منا الذلة"، فكانت ملحمة كربلاء التي تزداد تألقاً وتوهجاً عبر العصور.
ما زلت أذكر يوم حل الشاعر قباني في العراق مشاركاً في مهرجان الشعر التاسع في ربيع 1969، وكان الشعب العراقي والشعوب العربية بعامة تعيش آثار النكسة وانعكاساتها الرهيبة، ورغم كثرة الشعراء المشاركين في المؤتمر، فإننا توقعنا أن يقول نزار شيئاً مختلفاً كعادته، فقد ألقى قصيدة عمودية همزية في أكثر من مئة بيت عبّر فيها عن مشاعر الحزن والغضب والرفض والدعوة للرد على الهزيمة والثأر من المعتدين، وقد بدأها بالترحيب بالعراق وذكر جراحات الحسين فقال (6):
مرحباً يا عراق جئت أغنيك
وبعض من الغناء بـكاءُ
مرحباً مرحباً أتعرف وجهاً
حفرته الأيام والأنــواءُ
****
سكن الحزن كالعصافير قلبي
فالأسى خمرةٌ وقلبي الإناءُ
أنا جرحٌ يمشي على قدمـيهِ
وخيولي قد هدَّها الإعـياءُ
فجراح الحسين بعض جراحي
وبصدري من الأسى كربلاءُ
وأنا الحزن من زمان صديقي
وقليلٌ في عصرنا الأصدقاءُ
وقد لاقت قصيدة نزار ترحيباً كبيراً من الجماهير وكانت قصيدة المهرجان من دون منازع، رغم أن البعض استنكر على الشاعر ادعاءه أن جراح الحسين هي بعض جراحه، ولا أعتقد أن الشاعر يقصد ذلك في قرارة نفسه، ولكنها مبالغات الشعراء التي لا تُعد ولا تحصى، والتي يجب أن تدرس طبقاً لمعايير فنية ونفسية وليس طبقاً لقواعد اللغة والخطاب المباشر، ودونك قول المتنبي:
أي محــل أرتـقــي أي عظــيم أتقي
فكل ما قد خلق الله مـا لــم يخلـقِ
محتـقرٌ في همــتي كشعرة في مفرقي!
فهذا غلو في التعبير وليس حقيقة صرفة، وعلى هذا الأساس يجب أن نفهم أبيات قباني السابقة.
أيلول الأسود ووفاة عبد الناصر: أيامنا كلها كربلاء
حينما شبت المعارك الضارية في الاردن في أيلول الأسود العام 1970، بذل الرئيس جمال عبد الناصر جهوداً مضنية لإيقافها وإطفاء نار الفتنة، الأمر الذي أثر على صحته فتوفي في أيلول -سبتمبر- 1970، بعدما جمع طرفي النزاع في مؤتمر القمة في القاهرة. وقد رثاه نزار معتبراً وفاته امتداداً لاغتيال الأئمة والأولياء في تاريخنا العربي الذي تلونه الدماء، فقال (7):
قتلناكَ ..
ليس جديداً علينا
اغتيال الصحابة والأولياءْ
فكم من رسولٍ قتلنا...
وكم من إمام ذبحناهُ
وهو يصلي صلاة العشاءْ
فتاريخنا كلهُ محنةٌ
وأيامنا كلها كربلاءْ
لقد كتب على هذه الأمة أن يفتك شِرارُها بأحرارها، حتى عاد تاريخها كله محَن وفتن، وأيامها كلها كربلاء!
في رثاء عميد الأدب العربي
لقد توفى عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بعد حرب تشرين -أكتوبر- 1973 فرثاه بقصيدته الشهيرة "حوار ثوري مع طه حسين"، لكنه لم ينسَ الإمام الحسين ومشهده في مصر، حيث يستظل بحماه الذي يعتبر القلب النابض للقاهرة التاريخية (قاهرة المُعِز) فيقول(8):
ضوء عينيك أم هما نجمتانِ
كلهم لا يرى وأنت تراني
يا أميرَ الحروف ها هي مصرٌ
وردةٌ تستحمُّ في شرياني
إنني في حِمى الحسين
وفي الليل بقايا من سورة الرحمنِ
تستبد الأحزان بي فأنادي
آه يا مصرُ من بني قحطانِ
****
شهيد كربلاء وفدائي فلسطين
أشرنا سابقاً إلى أن عدداً من الشعراء العرب انطلقوا من مأساة كربلاء لتصوير بعض ما جرى على الشعب الفلسطيني من مجازر وتهجير وسبي. فمشاهد ضحايا دير ياسين وكفر قاسم وقبْية وغيرها تذكّر بضحايا واقعة الطف، وقوافل اللاجئين الذين هُجِّروا من ديارهم والهائمين على وجوههم في البراري تذكّر بسبايا آل البيت النبوي وهنّ يتنقلن من بلد إلى آخر، ويتفرج عليهنّ القاصي والداني كما ذكر المؤرخون الثقاة وأرباب المقاتل.
وجاءت حرب حزيران 1967 لتعمق الجراح التي لم تندمل منذ نكبة 1948. ولذا حينما برزت ظاهرة العمل الفدائي الفلسطيني كرد على تلك الحرب تفاعل معها قباني، وكرّس لها الكثير من قصائده. ففي قصيدته "منشورات فدائية على جدران إسرائيل" يقول:
نأتي..
بكوفياتنا البيضاء والسوداءْ
نرسم فوق جلدكمْ
إشارة الفداءْ
من رحم الأيام نأتي كانبثاق الماءْ
من خيمة الذل التي يعلكها الهواءْ
من وجع (الحسين) نأتي ..
من أسى فاطمة الزهراءْ..
من أُحُدٍ، نأتي، ومن بدرٍ..
ومن أحزان كربلاءْ
نأتي.. لكي نصحح التاريخ والأشياءْ
ونطمس الحروف في الشوارع العبرية الأسماء (9)
لقد ولد هذا الفدائي من بين المعاناة وخيام اللاجئين التي تسف فيها الرمال والتي صممت لإذلال شعب كريم، إنه يختزن آلام الحسين وأحزان كربلاء وانتصارات واقعة بدر الكبرى وصمود المسلمين في أحد، ليحولها إلى صرخة حق وانتفاضة ثأر تعيد كتابة تاريخ فلسطين الذي حاولت الصهيونية طمسه، وكتابة تاريخ عبري مزوّر