تصادف هذه الأيام ذكرى ولادة سيد الكائنات
وخاتم الرسل محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله
وحفيده الإمام جعفر بن محمّد الصادق سلام الله
عليه، وإنّي إذ أبارك لكم هاتين المناسبتين
العظيمتين اللتين ليس من المصادفة أن يقترنا
في يوم واحد ـ هو السابع عشر من ربيع الأول ـ
حيث الجدّ صلى الله عليه وآله مؤسّس الإسلام،
والحفيد سلام الله عليه ناشر الإسلام؛ أحاول
الوقوف عند قضية تتعلّق بالسيرة النبوية
المباركة أذكّر بها نفسي وسائر إخواني
المؤمنين.
هناك حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله
أكْثَر من روايته العامّة والخاصّة بطرق
مختلفة لدرجة قد تبلغ حدّ التواتر، من أنه صلى
الله عليه وآله قال: «كثرت عليّ الكذّابة
وستكثر» وفي بعضها بزيادة: «بعدي»(1).
والمقصود بالكذّابة على رسول الله صلى الله
عليه وآله الذين يختلقون الأحاديث وينسبونها
له، أو يلصقون بسيرته صلى الله عليه وآله ما
ليس من سيرته.
أكاذيب لا صحاح هذه الأكاذيب والروايات الموضوعة على رسول
الله صلى الله عليه وآله تعدّ من الأسباب
والعوامل المميزة جداً ـ ولعلّها أهمّ سبب من
بعض الجهات ـ وراء صدود غير المسلمين وعدم
إقبالهم على الإسلام واعتناقه؛ لأن هذه
الموضوعات قد عملت على تشويه سمعة وصورة النبي
صلى الله عليه وآله كثيراً ورسمت له بعض
الحالات التي يتأبّى كثير من الناس العاديين
أن يوصف بها.
فلو فرضنا أنّ مسيحياً أو يهودياً أراد أن
يعرف الإسلام ونبيّه من خلال كتب من يدّعون
أنهم مسلمون، وتحرّى أن يكون رجوعه إلى كتب
رواياتهم الصحيحة أو ما يسمّونها بالصّحاح،
فماذا سيجد فيها؟
سيرى ومن خلال الأوصاف التي تذكرها للنبي صلى
الله عليه وآله أنه ليس بأفضل من موسى وعيسى
عليهما السلام, بل قد يستنتج العكس، وسيقول:
إنّ هذه الصفات التي تذكرها هذه الكتب لا تليق
بالإنسان العادي فكيف بالنبيّ؟
إنّ هذه الروايات الموضوعة التي تشوّه صورة
النبي صلى الله عليه وآله من الكثرة بحيث تكفي
وحدها للحيلولة دون هداية الآخرين إلى
الإسلام. ولو حلّت هذه المعضلة فربما أسلم
الملايين من غير المسلمين دفعة واحدة، وسنشهد
مرة أخرى أن «الناس يدخلون في دين الله
أفواجاً» كما حصل مع الذين عاصروا النبيّ صلى
الله عليه وآله ورأوه في صدر الإسلام.
نموذج من الأكاذيب كان زيد مولى لرسول الله صلى الله عليه وآله
ومتبنّاه. وكان العرب في الجاهلية يعاملون
المتبنّى معاملة الابن الحقيقي تماماً،
فينسبونه إلى الأب الذين تبنّاه ويورّثونه منه
ويكون كالأخ لبناته وأبنائه، وإن كانت بنتاً
تكون كالأخت لهم.
لكن عندما جاء الإسلام رفض هذا التعامل وفرّق
بين ابن الإنسان الذي من صلبه وبين من يكون
كالابن لسبب من الأسباب كالتربية والكفالة
وغيرهما؛ ولذلك لم يعدّه من المحارم ولا حرّم
زوجته على من قام مقام أبيه وليس أباه حقّاً؛
فقال: «حرّمت عليكم أمهاتكم ... وحلائل
أبنائكم الذين من أصلابكم...»(2) أي ولا تحرّم
حليلة الابن الذي ليس من الصلب.
وأراد المشرّع تعالى أن يكسر هذه السنّة
الجاهلية عملياً؛ وحيث إنها كانت سنّة مستأصلة
ومتجذّرة فيهم شاء الله تعالى أن يكون نبيّه
هو المثل والقدوة في ذلك.
ومع امتثال النبي صلى الله عليه وآله لأمر
الله تعالى، وعدم الحيد عنه قيد شعرة، لكنه
صلى الله عليه وآله نظر إلى عواقب الأمور؛
ولذلك تراه أعتق زيداً أوّلاً، وزوّجه ابنة
عمّته (3) زينب بنت جحش، لكن زيد لم يستسغ
العيش معها بعد مدة فقرّر طلاقها، والتمسه
النبيّ أن لا يطلّقها، ولكنه آثر أن يطلّقها،
لأنه لم يكن على وئام معها.
وبعد أن أصبحت خلية تزوّجها النبي صلى الله
عليه وآله.
اللافت للنظر أنّ هذا الزواج تم من قبل الله
مباشرة، فقال تعالى: «... زوجناكها» ولذلك
كانت زينب تفتخر على سائر زوجات النبي صلى
الله عليه وآله وتقول إن الله تعالى هو الذي
زوّجني دونكن، ومنه إتمام للحجّة وسدّ للطريق
على التقوّلات والتخرّصات، ولئلا يقال: كيف
تزوّج رسول الله من حليلة ابنه. ولكن مع ذلك
نرى أن المنافقين لم يسكتوا.
قال تعالى: «وإذ تقول للذي أنعم الله عليه»
أيّ بالإسلام «وأنعمت عليه» بعتقه وتزويجه:
«أمسك عليك زوجك» ولا تطلّقها «واتق الله» في
ذلك، «وتخفي في نفسك ما الله مبديه» من حكم
الله وأمره لك في تزويجها إيّاك وما في هذا
التزويج من إثارة اجتماعيّة سواء من المشركين
أو حديثي العهد بالإسلام، لكنّ هذا أمر الله
«والله أحقّ أن تخشاه» أي لا تخش الناس
وأقاويلهم.
«فلما قضى زيد منها وطر» أي طلّقها «زوجناكها»
فهل هناك ما هو أصرح من ذلك.
وإنما أراد الله تعالى ذلك منك يا رسول الله
صلى الله عليه وآله وأنت القدوة والمثل الأعلى
للمسلمين «لكيلا يكون حرج على المؤمنين في
أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطراً» بل
يقتدوا بك ويتزوّجوا حلائل الأبناء الذين
ليسوا من الأصلاب ولا يتحرّجوا في ذلك «وكان
أمر الله مفعولاً»(4).
فقضية يذكرها القرآن الكريم بهذا الوضوح مع
ذكر التعليل والهدف، وذكر خصوصيات من قبيل
«زوجناكها» و«تخشى الناس والله أحق أن تخشاه»
ومع كلّ ذلك، عمد المفترون وذكروا أموراً وردت
في الكتب المسمّاة بالصحاح وكتب الحديث، يربأ
أحدنا ـ بل من هو أدنى منّا ـ أن يقوم بها أو
أن تنسب إليه.
قالوا في كتبهم: «... رآها فأعجبته...»، ثم
رغب عنها زيد فطلّقها لكي يتزوّجها النبي من
بعد ذلك.
حقاً ألا يعد هذا عملاً قبيحاً حتى لو صدر من
إنسان عادي؟ فكيف نسبوه إلى النبي في صحاحهم
التي يتداولها الملايين من الناس.
أسباب الإساءة إلى الإسلام إن الكتب التي تثير ضجة في أوساط المسلمين في
العالم وتسيء إلى الإسلام ونبيّه كما حصل قبل
سنوات مع أحد الكتب الشيطانية، إنما تعتمد
أمثال هذه المصادر والروايات لنشر إساءاتها ضد
النبي صلى الله عليه وآله!
إن هذه الرواية المدسوسة مادة دسمة لأعداء
الإسلام الذين ينشرون في كتبهم أن نبيّ
الإسلام كان رجلاً مغرماً بالنساء، لابل يسعى
لتطليق من يهواها من زوجها لكي يصل إلى مبتغاه
ثم كان يأتي بآيات مفتريات في ذلك، حاشاه ثم
حاشاه!
والعجيب أن الذين يروون هذه الأحاديث يقال
إنهم من الصحابة والتابعين! وتسمّى الكتب التي
تقوم بنقلها بالصحاح!
المسؤولية إنني أنتهز هذه الفرصة المباركة «مناسبة مولد
الرسول صلى الله عليه وآله وحفيده الإمام جعفر
الصادق سلام الله عليه» للتذكير بأن من
مسؤولية المسلمين عموماً والعلماء والمفكّرين
والمثقّفين خصوصاً أن يقوموا بالتحقيق في هذا
المجال لنفض الغبار عن هذا الركام, وإخراج
الصورة الحقيقية للإسلام ونبيّه صلى الله عليه
وآله, كما هي في القرآن الكريم ـ وما ينطق عن
الهوى ـ, والصحيح حقّاً من روايات النبي صلى
الله عليه وآله وأهل البيت سلام الله عليهم.
يكفي لمعرفة عظمة النبيّ صلى الله عليه وآله
ما روي عن أمير المؤمنين سلام الله عليه، أنه
قال: «أنا عبد من عبيد محمّد صلى الله عليه
وآله»(5).
أسأل الله تعالى ببركة صاحبي هاتين المناسبتين
وبقية الأنوار الطاهرة أن يزيد من توفيقنا
للخدمة في سبيله. وصلّى الله على محمّد وآله
الطاهرين.
___________________________
(1)
الاحتجاج:ج2/احتجاج أبي جعفر محمد بن علي
الثاني/ص446.
(2) سورة النساء: الآية 23.
(3) أميمة بنت عبد المطلب بن هاشم.
(4) سورة الأحزاب: الآية37.
(5) أصول الكافي:ج1/باب الكون والمكان/ص89/ح4.