تقديس الذهن بوصفه المصدر الاعلى للمعرفة ولصياغة شروط الواقع والتعامل معه واحتقار معطيات الواقع الخارجي بوصفها مادة احصاء واستقراء وتحليل تنتج معرفة متغيرة ومتحركة ونسبية تغاير ما يستقل به الذهن من المعارف الثابتة.
2ـ المظهر الثاني لهذا الطابع الذهني هو «اللاتاريخية» بما يؤدي إلى التعامل مع الظواهر الفكرية والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والمنهجية خارج سياقها التاريخي والحكم عليها بمعيار ذهني ثابت وعدم الاخذ بنسبية المعايير في نقد المعرفة ووقائع التاريخ والحاضر بالنظر إلى ظروف انتاجها.
وقد انعكست هذه النزعة «اللاتاريخية» على الفكر الاسلامي الحديث في تعامله مع التراث الاسلامي فغابت روح النقد الحقيقية للتراث وبرزت مكانها ثنائية القبول والرفض.. الابيض والاسود.. المقدس والمرذول.
ومن آثار هذه النزعة اللاتاريخية على الفكر الاسلامي الحديث هو تورط الكثير بالاعتقاد ان الحقائق العلمية والفكرية والاجتماعية قد قيلت سابقاً وان مهمة المعاصرين هي فهم ما قيل وشرحه وتشذيبه بقليل من الحذف والزيادة. ولم يميز الكثير منهم بين ما هو مقدس من النص الاسلامي «القرآن والسنة الثابتة» وبين ما هو ثمرة فكر وتأمل ووعي بشري تاريخي لهذا المقدس فانسحبت القداسة لديهم على الفكر الاسلامي نفسه اي على قراءة المتقدمين والمناهج التي اتبعوها في فهم النصوص وتأويلها الامر الذي ساهم في اضعاف حركة التطور والتحول والتجديد في الحياة وفي الفكر الاسلامي، ودفع البعض لمقاربة مشكلات جديدة في الفكر والاجتماع والاقتصاد بمناهج قديمة تنتمي إلى عصور وظروف مختلفة.
لقد تحرر فكر الشهيد الصدر من هذه النزعة «اللاتاريخية» وكانت مدرسة النجف الاشرف التي ينتمي اليها عاملاً مساعداً من جهة وعائقاً من جهة اخرى:
1ـ اما العامل المساعد فيتجلى في منهج البحث والتفكير العلمي الذي ارست تقاليده هذه المدرسة عبر قرون طويلة على قاعدة تحرير العقل من اي مسبقات خارجة عن قواعد العقل نفسه في مواجهته لأي مسألة من مسائل العلوم الإسلامية التي اضطلعت هذه المدرسة في تدريسها وبحثها وتطويرها.. ويعرف الباحثون المختصون هذه الحقيقة في أجرأ تجلياتها المتمثلة بمسائل علمي الاصول وقواعد الفقه ـ كما انتهت اليهما في عصرنا الراهن.
2ـ ولكن من جهة اخرى فان تقاليد جامعة النجف الاشرف اتسمت بالصرامة والقسوة ـ احياناً ـ تجاه الانفتاح على قضايا العصر ومشكلاته ولهذه الصرامة والقسوة اسبابها ومبرراتها ومجال بحثها الخاص.. المهم ان الشهيد الصدر واجه هذا التحدي واستطاع ان يتحمل قسوة المواجهة ولكن بعد ان انتزع اعترافاً بمكانته العلمية الرفيعة ومؤهلاته القيادية الدينية وبشروط الحوزة العلمية الدينية نفسها.
ان العودة إلى مؤلفات الشهيد الصدر سواء منها التي بحثت موضوعات جديدة على الفكر الاسلامي ودخلت في سجال مباشر مع المعارف الغربية المعاصرة «كفلسفتنا.. واقتصادنا.. والبنك اللاربوي.. والاسس المنطقية للاستقراء» أو تلك التي بحثت موضوعات فقهية واصولية وتاريخية تقليدية «كموسوعة معالم الاصول.. والرسالة العملية.. والتفسير الموضوعي للقرآن الكريم وفدك وغيرها» تضيء امامنا مستوين من مستويات تحرر فكر الشهيد من ازمة الفكر الاسلامي الحديث تجاه المعاصرة:
1ـ احدهما يتعلق في تحرير منهج البحث العلمي الاسلامي تجاه تحفظ هذا المنهج على معطيات العلوم العقلية والإنسانيّة المستجدة.. بحيث يلاحظ القارىء الباحث في نصوف الشهيد الصدر حتى الاصول الفقهية والتاريخية منها بروز صيغ وتقنيات وحتى عبارات ومصطلحات تبدو غريبة عن ادوات الابحاث التقليدية في هذه العلوم وهي مشتقة من مناهج البحث المعاصرة في العلوم الإنسانيّة
السؤال هنا كيف تم للشهيد الصدر مثل هذا الانفتاح على صيغ وتقنيات ومناهج لعلوم تنتمي إلى سياق حضاري غربي مختلف واحياناً مناقض للسياق الحضاري الاسلامي؟! اقول كيف تم له ذلك مع كونه المفكر الذي يتميز بامتلاك حساسية عالية وبالغة الدقة تجاه الخصوصية الحضارية الإسلامية وتميزها.. وامتلاكه ـ في الوقت نفسه ـ معرفة دقيقة بمكونات الحضارة الغربية وتجلياتها في العلوم والافكار والفلسفات وحرصه على تعزيز مناعة الشخصية الإسلامية ضد الذوبان في ثقافة الغرب ومفاهيمه؟
الجواب.. من وجهة نظرنا فان الشهيد الصدر كان مفكراً يميز بدقة بين معطيات العلوم والفنون والفكر الغربي بل ومجمل معطيات الحضارة الغربية.. كان يميز بين المعطيات ذات العلاقة بالعقيدة الغربية وبنظرة الغرب إلى الكون والحياة والإنسان وبين المعطيات «الحيادية» لعلوم الغرب وتقنياته ومناهجه التي لا تلابس العقيدة.. ويرى ان هذه المعطيات الاخيرة هي مما لا يشكل الاخذ بها اي شكل من اشكال الاستسلام لثقافة الغرب اي لعقيدته وروحه الخاصة.. بل من الضروري ان ننفتح عليها ونضيفها إلى ادواتنا المعرفية طبقاً للقاعدة الإسلامية المعروفة «الحكمة ضالة المؤمن يأخذها اينما وجدها».
في هذا المجال نتوقف عند مثالين للتطور المنهجي في البحث ونختارهما من مؤلفاته في مجالات العلوم الإسلامية بالذات لنتمكن اكثر من تحديد آثار المناهج الحديثة في دراسة العلوم الإنسانيّة على ابحاث الشهيد الصدر:
أ ـ المثال الاول: موسوعته «معالم الاصول» وهو كتاب يشمل مباحث علم اصول الفقه التي هي من مقررات الدراسة الدينية في جامعة النجف الاشرف.
ما يعنينا من الاشارة إلى هذا الكتاب هو المقدمة التاريخية التي وضعها الشهيد حول نشأة علم الاصول وتطوره عبر المراحل التاريخية حتى يومنها الحاضر. وهذا جانب من المعرفة لم يعتد عليها الطالب في جامعة النجف الاشرف الذي يبدأ مباشرة بدراسة مباحث هذا العلم دون اي المام بنشأة هذا العلم وتطوره.
ان الشهيد الصدر ادرك هذا النقص الفادح في منهج الدراسة بالمقارنة مع المناهج المعاصرة التي كرست تاريخ كل علم من العلوم بوصفه جزءاً من هذا العلم ومدخلاً لفهم مباحثه.. وقد اطلقت هذه المقدمة آفاقاً واسعة وامكانات غير محدودة لاكتشاف مناهج معاصرة لتطوير هذا العلم.
ب ـ المثال الثاني: المبادىء التي اطلقها لما سماه «بالتفسير الموضوعي» للقرآن الكريم وهي مبادىء لاضافة مناهج جديدة لقراءة القرآن الكريم لا تقلل من قيمة المناهج التقليدية لتفسير القرآن ولكنها تستبطن عدم القبول بأن هذه المناهج التقليدية قد استنفدت امكانات النص القرآن وبالتالي فان الحاجة لقراءات جديدة اصبحت منتفية ولا مبرر لها
يتبع لطفا