احبتي في الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
احببت اليوم ان اعطر منتديات انوار الاصلاح بنور من انوار الاصلاح في كل عصر وزمان وهو ابو الفضل العباس عليه عليه السلام ولم اجد افضل من هذا الكتاب الذي كتبه سماحة آية الله العظمى هادي المدرسي (دام ظله الوارف ) ذلك الرجل التي تفيض الحكمة والموعظة من كل جوارحه واحد ينابيع الفيض النوارني هو هذا الكتاب الذي انقل اليكم نصه كاملا واسأل الله ان يوفق الجميع بحق ابا الفضل العباس وخصوصا سماحة السيد هادي المدرسي وكل من يتخذ من العباس عليه السلام منارا وقدوة ومثلا وعبرة واعتبار والله ولي التوفيق ..........
العباس شهيد القيم
بطولة الروح وشجاعة السيف
كنت واقفاً عند مرقد العبّاس، الكائن على بعد مسافة قصيرة من مرقد أخيه الحسين في كربلاء، .وكان ممتلئاً بالزائرين.. عندما حدثت جلجلة وبلبلة، وساد التوتر المقام.
كان عمري إذ ذاك، ثلاثة عشر عاماً، و كان حب الاستطلاع يأخذ مني كل مأخذ، فوقفت استطلع الأمر، و أستجلبه.
رأيت مجموعة مكونة من عشرة أشخاص تقريباً، يمسكون برجل منهم، وهم يجرّونه بعنف، وهو في اشدّ ..حالات الذعر و الخوف: زائق البصر، مزوع الفؤاد، تعلو وجهه اصفرارة الذهول
..كان واضحاً ان لأولئك الرجال شأن غير اقامة الصلاة والدعاء والزيارة.
ضرب الناس حولهم طوقاً، واشرأبت الاغناق لتستطلع و سكتت الانفاس لتستمع
قلت للواقف جانبي:- ما هذا؟
هنا توقف المتّهم عن ذكر هذه الجملة، و بقى صامتاً.. فكرّر الخادم كلامه، ولكن الرجل تلعثم و لم يقل .شيئاً، فصرخ فيه أحدهم: "ويلك احلف" ولكنه رفض الكلام وتغيّر لونه.
كنت أنا -مثل غيري- مأخوذاً جداً بهذا الموقف. وبعد ان كرّر الخادم تحليفه ثلاث مرات، و لم يحلف الرجل اخذ أصحابه يجرّونه الى خارج المقام وهم يصرخون: "أيها القاتل العبّاس كشف جريمتك.. فاعترف بالحقيقة".
فقال الرجل بصوتٍ ضعيف "اسمحوا لي، فأنا قاتل صاحبكم".
في العراق لا يحلف الناس بالعبّاس كذباً، ويعتقدون أنه -عليه السلام- سوف ينتقم ممن يفعل ذلك، ومن هنا فأن قضية التحليف به يستخدم في القضايا الهامّة، مثل براءة المتهمين و إدانة المجرمين.
* * *
ذلك نموذج واحد من مظاهر حضور العبّاس اليومي في حياة الناس، ليس فقط في العراق وإنما في .العالم كله
ومن المضاهر الأخرى قيام الألوف بزيارة مقامه كل يوم، سواء من أجل الحصول على الوسائل في الحياة، او من أجل الحصول على الغايات، فالعبّاس يحرّك زائريه نحو أنبل المعاني الإنسانية التي كان .يجسّدها في حياته، كما انّه وسيلة لقضاء حوائجهم اليومية
وليس مرقده إلا ذلك المكان الذي يتوجه فيه الناس إلى المعنى، قاطعين مسافة الزمان الذي يفصلهم عن زمانه، بمجرد الوقوف عند ضريحه قائلين له: " سلامُ الله و سلام ملائكته المقرّبين، و أنبيائه المرسلين، و عباده الصالحين و جميع الشهداء و الصديقين، و الزاكيات الطيبات، فيما تغتدي و تروح عليك يابن أمير المؤمنين.. أشهد لك بالتسليم و التصديق و الوفاء و النصيحة لخلف النبي المرسل، و السبط المنتجب، و الدليل العالِم، و الوصي المبلّغ.
"و اشهد الله، انك مضيت على ما مضى به البدريّون، و المجاهدون في سبيل الله، المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبائه.."
وهم بهذه الكلمات يستعيدون التاريخ الماضي، و يستعرضون بطولات البدريّين و المجاهدين.. كما يتذكرون ما فعله العبّاس في تاريخه.. فأنت في حضور العبّاس تشعر وكأنّك تراه واقفاً في يوم عاشوراء بقدّه الرشيق، و طلعته البهية، ماسكاً بسيف عليّ، وراية الحسين، يدافع عن كل النبوات، وكل المناقبيات، فتعيش معه أجواء ملاحمه و بطولاته.
إنّ مرقد العبّاس اليوم مزار مئات الألوف، يأتونه من كل فج عميق، لأنه يذكّرهم بالله.. فهو مقصد المؤمنين ليس كهدف، بل كوسيلة، وضريحه مكان للدعوة إلى الله، والتضرع إليه، و إعلان الولاية لأولياء الله، والتبرؤ من أعدائه.
في حضور العبّاس تكون في الصلاة كلّ الخشوع لله تعالى، فالصلاة في محراب الشهداء هي الصلاة الحقيقية، وهي تختلف عن ألف صلاة مزيفة أخرى.. انها تختلف عن الصلاة في غرف نوم الملوك، و تختلف عن الصلاة للتظاهر أمام الناس، و عن الصلاة لكسب الرأي العام، و عن الصلاة المجردة عن تحمل المسؤليّة، و عن الصلاة التي لا تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي.
و لذلك لا ترى عند ضريحه إلا التورع والتضرع و الدعاء و الصلاة و النصيحة.. فهو شهيد تلك القيم.
وينقسم الناس بالطبع هناك إلى درجات: منهم من يعبد الله لكسب رضاه، و منهم من يستمدّ منه العزيمة لمواجهة طغيان الطغاة، ومنهم من يستنجد به لكسر شهوات الجسد، وتحمل المسؤليّة تجاه المخلوقين، ومنهم من يطلب منه حوائجه، فالناس يرون العبّاس بوابّة الحوائج، وليس ذلك إيماناً بالخرافات، فالحقيقة والخرافة تتمايزان في عالم النظريّات، ولكن في عالم الواقع فإنك لا تستطيع أن تقول لمن يطلب حوائجه عند ضريح العبّاس "أن ذلك خرافة"، فهو يحصل عليها بالفعل، وأنا ممن أؤمن بذلك، لأنني طلبت حوائج كثيرة من الله وقدّمت العبّاس بين يدي حاجاتي، واستجاب الله دعائي، ومثلي ألوفٌ مؤلفةٌ من الناس في كل مكان..
حقاً ان للعبّاس حضورٌ يوميٌ في حياة الناس، خاصةً في أوقات الشدّة، و عند مواجهة المشاكل، والحاجات العادية، و في مواجهة الشهوات النفسية.
كما ان للعبّاس حضور قويّ عند المواجهة مع الظالمين، أليس من أشهر العلامات التي يرفعها الثائرون في حالات المقاومة، هي علامة كفّ العبّاس؟ وهي العلامة التي ساهمت بمقدار كبير في الحفاظ على أكفّ المظلومين في كثيرٍ من الثورات التي خاضوها ضد سلطات الجور أو جنود الاحتلال، فكفّ العبّاس هي أشهر كفّ قطعت في سبيل الحق، وهي الكفّ التي ضحّى بها صاحبها حتى لا تتم التضحية بكفّ الحقيقة، بل إن كلّ جزءٍ مما ضحّى به العبّاس اصبح رمزاً عالمياً في كل زمانٍ ومكان: كفّه، وعينه، وجبهته، وصدره.
وكما كان سيف الحسين أطول سيوف الحق في التاريخ فإن راية العبّاس كانت ارفع رايات العدالة فيه...
فلقد امتزجت تلك الراية بقلبه، وبمبادئه و قيمه و مثله العليا، لترمز إلى أن الإيمان بالحق وحده لا يكفي، بل لا بد من رفع رايته.
ورفع رايته لا يكفي، بل لا بد من الاستماتة من اجله.
والدفاع عنه لا يكفي، بل لا بد من الاستعداد لكي تقطع من حاملها يداه، وتقلع منه عينه، و يتلقى ضربة من عمود الحديد على قمة رأسه
عندما قُتل العبّاس، و انتهت المعركة بمقتل الحسين -ع- و جميع أصحابه، انتذب عمر بن سعد - قائد جند يزيد- عشرة من الخيالة لكي يسحقوا أجساد الشهداء، حتى لا تصبح لهم قبور فتتحول الى مزارات يحج إليها الناس من كل مكان..
غير ان الله تعالى - الذي أبى بعزته، إلاّ ان يدافع عن الذين آمنوا في الحياة الدنيا، و يوم يقوم الأشهاد - خيّب ظنون أولئك الطغاة..
فها هو مقام أبى عبد الله الحسين -ع- و مقام اخيه ابي الفضل العبّاس يقصدها كل عام اكثر من مليون شخص، يطلبون بذلك رضى الله تعالى في موالاة أوليائه، و البراءة من أعدائه، و يطلبون من روحيهما الشفاعة لذنوبهم، و يتلقون المعجزات في قضاء حوائجهم..
فالعبّاس تحوّل بالشهادة من شخص، الى شاخص.
و من مؤمن، الى رمز للأيمان..
و من بطل، الى نموذج للبطولات..
و الألوف الذين يزورنه على مدار الساعة إنما يرون فيه مثالاً لكل الفضائل، في أجلى صورها..
فقد اشتمل العبّاس -ع- بالوفاء، و اشتمل به الوفاء.. و تسربل بالإيثار، و تسربل به الإيثار.. و تخندق بالشجاعة، و تخندقت به الشجاعة.
فاصبح نموذجاً لبطولة الإيثار حتى الموت..
و بطولة الوفاء حتى الموت..
و بطولة المقاومة حتى الموت..
و اخذ ينتقل من جيل الى جيل، لَيس كتراث للإنسانية فحسب، بل كعامل مساعد للعالم كلما عصفت به أزمة المثُل العليا.
لقد كانت شهادة العبّاس قيمة استثنائية قلّما يحظي بها أحد. و لذلك فقد اصبح فضيلة قائمة بذاتها، كما اصبح عدوّه رذيلة قائمة بذاتها.
و ليس ما يردده زائره عند ضريحه بقوله: "أنا سلم لمن سالمكم، و حرب لمن حاربكم" إلا تأكيداً على هذه الحقيقة..
لقد اعتمد الطغاة على القتل كوسيلة للقضاء على الحسين و اخوته، و بنيه، و أصحابه، كأشخاص ..
و استنجد بجمهرة من وعّاظ السلاطين للقضاء عليهم كحاملي قضايا حقة..
و عندما حسموا المعركة في عصر يوم عاشوراء من عام 61 هجريّة، رقصوا على جثث أولئك الرجال، و عربدوا، واسكروا، ثم قطعوا رؤوس الشهداء، و حملوها مع أسرهم الى طاغية الكوفة عبيد الله بن زياد، و طاغوت الشام يزيد بن معاوية، و ظنّوا ان كل شيء قد انتهى لمصلحتهم..
غير انَّ الشهداء لاحقوا القتلة الى مضاجعهم، فإذا بلعنة الحسين و العبّاس تلحق بهم في كل مكان، فيلاقي أكثرهم الجزاء العادل، قتلةً بقتلة.. و مثلةً بمثلة، في دنياهم قبل ان تستلمهم ملائكة العذاب في أخرتهم.
ان الحسين -ع- و عضيده العبّاس اصبحا منذ ساعة مقتلهما رمزين شامخين لكل المناقبيات، و دخلا في ضمائر الناس، يدفعانهم الى التقوى و العمل الصالح، و الدفاع عن المظلومين، و مقاومة الظالمين..
لقد قُتِلا من اجل الحق.. وقاتلا من اجل العدل.. و أريقت دمائهما من اجل الإيمان.. فأصبحا رايتين، و شعارين، يتجاوزان الزمان و المكان..
ذلك ان شهادتهما كانت نتاج المواجهة بين المنطق الإلهي الذي يرى الدنيا بعين الآخرة، و يلتزم بكل الفضائل.. و بين المنطق المصلحي، الذي لا يرى الآخرة أصلاً، ولا يلتزم بأية فضيلة.
و تلك المواجهة لا تعرف حدود الزمان، و لا حواجز المكان.. لأنها مواجهة مستمرة منذ خلق الله الإنسان، الى نهاية البشرية، سواء في أعماق النفوس، او في داخل المجتمعات..
و كان للعبّاس دور كبير في تلك المواجهة..
فلقد مزّق، تحت قيادة الحسين -ع- خيوط العنكبوت التي نسجتها أيادي بني أمية، حول عقول الناس و ضمائرهم..
و اثبت بشهادته ان الجباه الساجدات لله، لن تخضع - مهما اشتدّ بها المقام- لطغيان الطغاة..
و ظن أعدائه انهم قتلوه..
و لكن..
لا السيف الذي قطع يده..
و لا السهم الذي مزّق عينه..
و لا العمود الذي فلق هامته..
و لا كل محاولات التشويه التي طالت قضيته، استطاعت ان تمحي اسمه، و أن تؤثر على روحه الهائجة بالمثل، و فحولته العارمة ضد الطغيان، و ثورته المليئة بالبطولة..
فالعبّاس بعد اكثر من ألف و ثلاثمائة و سبعة و خمسين عاماً من سقوطه على الأرض، يعود حياً في كل مواجهة بين الحق و الباطل، ليملأ قلوب اهل الحق بقوة العزيمة، و مضاء الأيمان، وصدق النية.
وهو في الليالي الحالكات يطرق أبواب البيوت، ليقول للناس: ان من يخسر يديه في سبيل الحق، فسوف يُعوّض عنهما بجناحين يطير بهما في الجنة..
وأن من يخسر بصره في المجابهة مع الباطل، فسوف يُعوّض عنه ببصيرة نافذة، تخترق حجب الأوهام..
و أن من يخسر قمة رأسه، فسوف يتربع -لا محالة- على رأس القمة..
و أن من يخسر حياته في الدنيا في سبيل الله، فسوف يربح حياةً أبدية في جنة الخلد عند مليك مقتدر..
أن العبّاس يعود اليوم حلماٌ بالبطولة، في كل مجتمع خامل، و وعداً بالانتصار في كل معركة بين الأيمان و النفاق..
لقد ذهب الجلاّدون و القتلة الى مزبلة التاريخ..
أما العبّاس فقد ازدهرت سيرته، ونمت بطولاته، لتصبح شجرة من نور، اصلها في كربلاء و جذورها تمتد الى كل بقاع الأرض، و ثمارها تنمو في الضمائر كقيمٍ للنبل، و الإيثار، و الشجاعة، و الوفاء، و الكرم..
و قد تحوّل -ع-، باقتحامه الموت إلى بطلٍ لملحمةٍ بحجم البشرية كلها، فاصبح للملحمة حجمٌ أوسع مما كان لها.
واصبح لكل الفضائل مقاسات جديدة، اكثر علواً وسمواً وارتفاعاً.
فلقد امتلك امتياز صفاء الروح، و كرم السجية في حياته اليومية، و في مواقفه الاجتماعية، وجاء مقتله ليشكّل، هو الآخر، امتيازاً لم يحظ به أحد.. فقد أعطى أعضاء جسمه في سبيل الله -تعالى- قطعة فقطعة، فسبقته أعضائه الى الجنة، قبل أن يسلّم روحه إلى بارئها، فأعطى أولاً يده اليمنى.. ثم أعطى يده اليسرى.. ثم أعطى عينه.. ثم أعطى صدره.. ثم أعطى قمة رأسه، ثم هوى إلى الأرض، لتعرج نفسه الزكية إلى جنة الخلد راضية، مرضية. لم تنجسها الجاهلية بأنجاسها ولم تلبسه المدلهمات من ثيابها.
ولم يكن غريباً اذن، أن يبكيه الحسين بكاءاً عالياً، فقد رجع ابو عبد الله إلى المخيم، بعد مقتل اخيه، ليواجه النسوة و هن في ذهول لا يعرفن ما الذي حدث؟ و كيف حدث؟
ذلك أن العبّاس ذهب ليأتي بالماء، وذهب خلفه الحسين بعد ان انقطعت اخباره ليستجلي الأمر، فخرجت النسوة من المخيم ينتظرن ما يعود به الحسين.. فإذا بهم يرونه منكسراً، حزيناً، يكفكف دموعه بكمّه، وهو يقول:
"أما من مجيرٍ يجيرنا؟..
أما من مغيثٍ يغيثنا؟..
أما من طالب حقٍ ينصرنا؟..
أما من خائفٍ من النار فيذُّب عنّا؟.."
فتقدمت إليه ابنته سكينة، وأخذت بعنان جواده قائلة: " أين عمّي العبّاس؟"
فقال الحسين: "أنّ عمك قد قتل"
ثم بكى بكاءاً مرّاً، وبكت النسوة، وصاحت زينب:
"وآ محمداه.. وآ علياه.. وآ فاطمتاه.. وآ عباساه.. وآ ضيعتنا بعدك يا أبا الفضل".
لقد شعر أهل البيت بالفجيعة من مقتله، لأنه كان عمود خيمتهم.. وهاهو العمود قد انكسر.
و كان حامل رايتهم.. و ها هي الراية قد سقطت.
ولم يكن أيضاً غريباً تلك الغضبة الهاشمية التي أبداها الحسين بعد مقتل أخيه، حيث انقّض على الأعداء، كأنّه الصقر يضرب فيهم يميناً وشمالاً وهو يصرخ فيهم: "إلى أين تفّرون وقد قتلتم أخى؟"
"إلى أين تفّرون وقد قتلتم عضدي؟"
"إلى أين تفّرون يا قتلة أولاد النبيين؟"
ولا كان غريباً من سيد شباب أهل الجنة تلك الكلمات التي تلفظ بها على جثته قائلاً: "يعزّ، و الله عليّ فراقك.. الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي".
وفي الحقيقة أن الحسين شعر بهزّة عاطفية عميقة، عندما سمع صوتاً خافتاً من ساحة المعركة يقول: "عليك مني السلام يا أبا عبد الله".
وكانت تلك الكلمة تعني الوداع الأخير، فقد كان الأصحاب يشيرون بها الى مقتلهم، و لم يكونوا يتلفظونها إلا في اللحظات الأخيرة من الحياة، عند تسليم الروح.
وعرف الحسين من وداع العبّاس انه في موقفٍ صعب، اي إنه في النزع الأخير، و لابد انه تحت رحمة تلك السيوف القاسية التي يحملها زنود العتاة من أهل النفاق..
فقفز على فرسه، وأخذ يطير به باتجاه مركز الصوت، ولكنّه كلّما تقدّم به المسير أبطأ قليلاً، وهو يتوقع أن يرى ما لم يكن يرغب أن يراه، وإن كان لا يزال به أمل أن يصل إلى اخيه قبل أن تفيض روحه، لكنه -على كل حال- كان يعرف أن العبّاس ليس بالذي يستغيث، ولا من يتلفظ" تحية الوداع" إلاّ في اللحظات الأخيرة من حياته.
و هكذا فإن الحسين كان يقدّم رجلاً، ويؤخّر أخرى، بعد أن نزل من جواده وقد ابتعد الأعداء عن جثة العبّاس يراقبون الموقف، وكانوا يلتذون كلمّا حزن الحسين، ويحزنون كلما فرح.. فلقد كانوا في النقيض لما كان عليه أهل البيت، في أعمالهم ومواقفهم و مشاعرهم أيضاً.. كأنهم كانوا يلعبون لعبة "الصاعدة بالنازلة" فكلما عرج أهل البيت في المناقبيات، نزلوا هم إلى حضيض الموبقات، تماماً كما كانت الحالة بين الكفار الجاهلية و رسول الله -ص-.
وفي الحقيقة فان من الصعب أن نعرف ماذا كانت مشاعر أبي عبد الله في تلك اللحظات المرعبة، التي كان فيها على وشك أن يودّع أخاه الذي وقف معه مدة خمسة وثلاثين عاماً لم يفارقه فيها، وكان بالنسبة اليه عينه الباصرة، ويده الضاربة، وظهره الذي يستند إليه.
لقد كان العبّاس، قبل ساعات، يقف الى جانب اخيه، و هو يحمل اللواء ويحارب دون معسكره، وكانت النسوة يجدن فيه سلوتهم، و كنّ اذا سقط شهيدٌ من الشهداء، نظرن الى العبّاس فتطمئن به قلوبهن.. فكيف يستطيع الحسين في لحظات أن يتحمل غيابه الخاطف؟ و ماذا سيكون وقع هذا المصاب الجلل على عياله؟!
عندما كان الحسين يتقدم إلى مصرع اخيه شعر لأول مرة بالوحدة الحقيقية.. و كان العدوّ يقف مراقباً، ينظر ماذا يفعل؟ فشاهده أحدهم وقد انحنى قبل الوصول إلى جسد ابي الفضل وقد التقط شيئاً من الأرض.. وكانت تلك اليد اليمنى للعبّاس وقد قطعت من الكتف.
ثم مشى -ع- قليلاً و التقط قطعةً أخرى.. وكانت تلك يده اليسرى،وقد قطعت من الزند.. فلقد تطايرت أعضاء العبّاس على مساحة من الأرض: قطعة هنا، وقطعة هناك.
ترى كم هو صعب أن يقف المرء موقفاً يجمع فيه أعضاء أخيه؟
غير أنّ الذي هوّن ذلك على الحسين، انه كان يجري بعين الله، فالله هو الشاهد، وهو الحاكم، و الحسين قد نذر نفسه لله، كما فعل أخوه وأصحابه.
و لما تقدم اكثر فوجئ بالعبّاس مضرجاً بدمائه، وسهم نابت في عينه، واخر في صدره، بينما كان رأسه مفطوراً بعمود من الحديد و كان لا يزال ينزف بغزارة.
أهذا هو "العبّاس"!؟
إن الحسين شعر بحزنٍ عميق بعمق البحار، كما شعر من قبل رسول الله بحزن مماثل، حينما واجه جسد عمّه حمزة بن عبد المطلب بعد معركة "أحد" و قد مثّل به الاعداء، ولولا أن الحسين كان يعرف أنّه راحل الى الموت في اثر اخيه، لطارت روحه الزكية مع روح ابي الفضل إلى جنة الخلد، فقال عليه السلام وهو ينظر إلى تلك الجثّة: "قتلة كقتلة النبيين وأولاد النبيين".
فعلى مرّ التاريخ كان أعداء الرسل ينكلّون بقتلاهم، و لا يلتزمون بأية حدودٍ في المواجهات العسكرية. كيف و يزيد و جنده كانوا يختزنون كل الاحقاد التي حملها من قبل جده ابو سفيان و جدته هند و التي دفعتهما الى التمثيل بجسد حمزة -ع
يتبع لطفا